مع اعتقال صدام حسين، تكون قد انطوت مرة واحدة وإلى الأبد، صفحة وحشية من صفحات تاريخنا العراقي، بينما تنتظر صفحة جديدة للأمل والسلام كي تسطر وترى النور. فقد أصبحنا نحن العراقيين أحرارا اليوم لكي نخط نهجا للسلام والازدهار، لنا ولأطفالنا وللأجيال القادمة. ولا شك أنه طريق وعر وصعب، يحتاج منا الكثير من الصبر والإرادة والحكمة والبحث عن الذات في سبيل تحقيق ما نصبو إليه. غير أن اعتقال صدام حسين، يعد بحد ذاته، إنجازا كبيرا باتجاه إعادة بناء شخصيتنا الوطنية. وبالقدر ذاته فإن كيفية التعامل معه أمام المحاكم، ستكون بمثابة اختبار لمصداقية حكم القانون في العراق، فضلا عن أنها سترغم العراقيين على تأمل ماضيهم والتفكر فيه، مع السعي إلى تجاوزه. وبذهاب صدام، فإنه لابد من أن تبدأ عملية المصالحة الوطنية، وتعم روح العدل والتسامح في العراق. وها هي أبصار العالم كله تشخص نحونا وتراقبنا.
يجب علينا أن نزيل أية شكوك حول مدى تشوقنا لمعاقبة ومحاكمة أولئك المجرمين الذين قهرونا وقتلوا أهلنا وحطوا من قدر مؤسساتنا الوطنية. فلقد عانينا كثيرا وطويلا تحت نير أولئك الذين كانت بيدهم سلطة لا رادع لها ولا حسيب. ولهذا السبب فقد أصدر مجلس الحكم العراقي قرارا بإنشاء محكمة لمجرمي الحرب، يكون اختصاصها محاكمة كل الذين ارتكبوا جرائم شائنة وشنيعة بحق العراقيين خلال الثلاثة عقود الماضية من حكم (البعث). ولما كانت إجراءات المحكمة ستكون على درجة من الشفافية العدلية المستندة إلى القانون، فليطمئن العراقيون إلى أن نظامنا العدلي الجديد سيكون قائما على أسس ومبادئ العدالة في محاكمته ومعاقبته للمجرمين، فضلا عن توفيره الحماية القانونية للجميع.
ولكن للأسف، فإن سياسة إزالة آثار (البعث) الجارية الآن، أي التطهير العشوائي لكافة العراقيين الذين التحقوا بعضوية حزب (البعث)، بغية الحصول على عمل وتأمين لقمة العيش، لا تسهم في عملية إعادة البناء الاقتصادي، ولا الاستقرار السياسي ولا إرساء حكم القانون وحفز خطى المصالحة الوطنية. فهي سياسة عشوائية لا تستند إلى القانون. بل الواقع أن لها القدرة على إزالة حكم القانون قبل أن تضرب جذوره في التربة العراقية الجديدة. كما يجب القول إن سياسة إزالة آثار (البعث) اقتصاديا، يمكن أن ترسي سابقة قانونية خطيرة، تلحق أضرارا فادحة بمصالح العراقيين، علاوة على إضرارها بمصالح أولئك الساعين لمساعدة العراق ومد يد العون إليه.
فمن بين الأهداف التي تشملها إزالة آثار حزب (البعث) هذه من الناحية الاقتصادية، إعداد قوائم سوداء بكل الأفراد والشركات الأجنبية التي كانت لها استثمارات قانونية ومشروعة مع نظام وحكومة (البعث) خلال العقود الثلاثة الماضية. يلاحظ على هذه العملية أنها لا تشبه الإجراءات القانونية التي تؤمن الحماية اللازمة للأبرياء، ولا تحمل ذرة واحدة من شفافيتها. بل هي على عكس ذلك تماما، تمنح سلطات قضائية وقانونية واسعة لحفنة قليلة من العراقيين من حملة خطابات وأوامر تجريد الأفراد من حقوقهم القانونية والمدنية. ولا شك في أن إجراءات كهذه، عادة ما تكون عرضة لممارسات الفساد دفاعا عن المصالح والسلطات الجديدة المكتسبة، إضافة إلى كونها تمهد التربة لسيادة ثقافة الاتهامات الباطلة والفساد والمحسوبية. والنتيجة الحتمية لكل ذلك هي تقويض العدل، وهدم الأسس التي يقوم عليها التنافس التجاري الحر.
ولا بد للعراقيين من أن يكون لهم كل ما لمجتمعات الديمقراطية والسوق الحرة: عملية قضائية شفافة، تقوم على حكم القانون، وجديرة ببناء الثقة في مؤسساتنا، بحيث يمكنها معاقبة المذنب وحماية البريء، وحفز مصالحة وطنية حقة بين العراقيين. أذكر أنني أمضيت عاما كاملا في المستشفى أثناء إقامتي أنا وزوجتي في العاصمة البريطانية لندن، بسبب الإصابات البالغة التي سببها لي سفاحو صدام حسين الذين أرسلهم لقتلي قبل نحو عشرين عاما من الآن. لم أكن أنا وحدي هدفا لتلك المحاولة، وإنما تعرضت زوجتي أيضا لإصابات خطيرة جراء ذلك الاعتداء. كان ذلك بحد ذاته حدثا كافيا لدفعنا للسعي إلى الانتقام. ولكن الذي حدث هو عكس ذلك تماما، إذ سعينا إلى العدل وأن يجري القانون مجراه. فما هي إلا بضعة أسابيع مضت، حتى كانت محكمة عراقية قد خطت أولى الخطوات لمحاكمة صدام حسين غيابيا على محاولة الاغتيال تلك. والآن فها نحن والعراقيين جميعا، ننتظر أن يكتمل جمع الأدلة اللازمة لإثبات تلك الجرائم ومحاكمته وإحقاق العدل في نهاية المطاف.
أما الانتقام، بما فيه الانتقام عبر الإزالة العشوائية لآثار (البعث)، فقد كلف العراق الكثير، كما هو واضح للعيان. فبين ليلة وضحاها، تم تفكيك معظم الأجهزة الإدارية المدنية، وتم فصل كثير من موظفي الخدمة المدنية المخلصين وإعفاؤهم دون منحهم فلسا واحدا لقاء خدمتهم. ونحن ندرك جميعا أنه بدون وجود جهاز خدمة مدنية فاعل وكفؤ، فإن الاستثمار محليا كان أم أجنبيا، سيفتقر إلى معظم الأطر القانونية والسياسية والإدارية التي تجعله قادرا على العم